![]() |
| رواية أقدار |
رواية أقدار - ظلّ يمرّ في روحي ولا أراه تخرّج نرجس
كانت السماء الرمادية تُظلّل ساحة الجامعة التي اجتمع فيها الأهالي. على المقاعد الخشبية الصغيرة جلس الآباء والأمهات، بعضهم يحمل باقات من زهر الليمون، وآخرون جاءوا بعلب حلوى منزلية الصنع للاحتفال بأبنائهم.
كانت رائحة الخُبز الطازج من فرن القرية القريب تمتزج برائحة الصنوبر الرطب بعد مطرٍ خفيف هطل قبل ساعة.
وقفت نرجس في الصف الأمامي بثوب التخرج البسيط.
لم يكن لامعاً كالذي يرتديه خريجو المدن، لكنه بدا عليها كأنه ثوبٌ خُيط لها وحدها.
كانت تبحث بين الوجوه عن أمها، ثم وجدتها تجلس في الصف الأول، تمسح دموعها وتنظر إليها بعينين لامعتين.
اقتربت سمر، صديقة نرجس، وهمست:
ــ أشعر أنكِ مختلفة اليوم… وجهك يشبه من عرف الجواب قبل أن يسمعه.
ابتسمت نرجس ابتسامة خفيفة، ثم قالت:
ــ لست مختلفة… فقط أشعر بشيء غريب يراودني منذ فترة، كأن أحدهم يناديني من مكان بعيد.
نظرت سمر إليها بدهشة، لكنها لم تُكمل الحديث، فقد بدأ رئيس الجامعة يعتلي المنصة ويعلن أسماء الخريجين.
صعدت نرجس بخطوات مترددة، وعندما مدّت يدها لتأخذ شهادة التفوّق، شعرت برجفة خفيفة في أطرافها؛
كأن الهواء حولها تغيّر، أو كأن الزمن توقّف ثانيةً واحدة.
سمعت في داخلها صوتاً لا تدري مصدره:
"قريباً… ستعرفين."
تلفّتت حولها فلم تجد أحداً يكلّمها، لكن قلبها خفق بقوة.
صفّق الجمهور بصوتٍ يملأ الساحة، وارتفع صوت الطبول من بعض الشبّان عند مدخل المدرسة، احتفاءً بخريجي قريتهم الصغيرة.
نزلت نرجس من المنصّة، فركضت أمها نحوها واحتضنتها بقوة.
قالت الأم وهي تقبّل رأسها:
ــ كبرتِ يا نرجس… كبرتِ بسرعة، حتى إن قلبي لم يلحق بك.
ابتسمت نرجس، لكن عينيها ظلّتا تبحثان في الأفق، كأن شيئاً ما ينتظرها خلف الجبال.
اقترب الأستاذ هيثم، وأعطاها كتاباً صغيراً عن الزراعة الحديثة، قائلاً:
ــ هذا آخر ما أستطيع أن أهديه لكِ… أنتِ لستِ كغيركِ من الطلاب يا نرجس. فيكِ شيء لا يشبه هذه القرية… ولا يشبه أحداً.
تجمّدت نرجس لحظة. ذلك الكلام لامس شيئاً في داخلها لا تعرفه.
في الخلفية، كانت أصوات زملائها ومعهم وسام يعلو:
"صورة، صورة، نريد صورة معكِ!"
ضحكت نرجس والتقطت الصور معهم، لكن في كل صورة كانت عيناها تبحثان عن ذلك الشعور، ذلك النداء الخفي.
تلك الروح التي تشعر بها ولا تعرف من تكون.
وفي لحظةٍ خاطفة، بينما كانت الشمس تخرج من خلف الغيم، شعرت كأن ضوءاً صغيراً مرّ أمام عينيها…
ضوءٌ يشبه ظلّ فتاة أخرى.
لم تعرف نرجس أن تلك اللحظة. هي أول خيط يربطها بـ فرح.
![]() |
| نرجس |
رواية أقدار رواية درامية - حين ضاق قلبي بما لم يحدث بعد
كانت السماء قد بدأت تميل إلى الزرقة الداكنة، والقرية تستعدّ لليل هادئ آخر. دخلت نرجس البيت وهي ما تزال تحمل شهادتها بين يديها كأنها كنزٌ خفيّ.
كانت أمّها بثينة قد أعدّت الشاي ووضعته على الطاولة الخشبية الصغيرة قرب النافذة، تنتظر ابنتها بلهفة.
جلست نرجس بصمت، ثم وضعت الشهادة أمامها، وتنهدت بعمق.
قالت بثينة بسعادة الأم:
ــ لم أنسَ لحظة صعودكِ إلى المنصّة، شعرتُ وكأنكِ تحلّقين يا نرجس.
ابتسمت نرجس ابتسامة خفيفة، لكنها لم تبدُ سعيدة كما يجب.
رفعت فنجان الشاي وقالت بصوت خافت:
ــ أمي، هل تظنين أن الإنسان يعرف مكانه الحقيقي في الحياة؟
نظرت بثينة إليها باستغراب، ثم جلست بقربها.
ــ ولمَ هذا السؤال الآن؟ هذا يوم فرحتك يا ابنتي، يومٌ تُطوى فيه مرحلة وتبدأ أخرى.
أطرقت نرجس قليلاً، ثم قالت:
ــ أشعر، أني غريبة. أحياناً أنظر إلى المرآة ولا أعرف إن كنتُ أنا… أنا.
وضعت بثينة يدها على كتف ابنتها.
ــ أنتِ متعبة فقط يا نرجس. الامتحانات وسهر الليالي يرهقان أي أحد.
هزّت نرجس رأسها:
ــ لا يا أمي… المسألة ليست تعباً. اليوم وأنا على المنصّة أحسستُ بشيء…
توقّفت لحظة، تبحث عن الكلمات.
ــ أحسست أن أحداً يقف خلفي. ليس شخصاً… بل روحاً. شعرتُ كأنها تلامس كتفي، كأنها تقول لي: «أنا هنا».
شهقت بثينة بخفوت، لكنها حاولت إخفاء ارتباكها.
ــ وهل رأيتِ شيئاً؟
ــ لا، فقط شعور قوي. أمي، هل يُعقل أن يكون للإنسان نصف آخر؟ شخص لا يعرفه لكنه يشعر بوجوده؟
تجمّدت بثينة لثانية، ثم قالت بسرعة:
ــ هذه أفكار الشباب يا نرجس. عندما يكبر المرء يبحث عن معنى لكل شيء، فيتوه.
رفعت نرجس عينيها إليها وقالت بجرأة لم تعهدها أمها:
ــ لكنني لست تائهة. أنا متأكدة من شيء واحد، أن هذه الروح قريبة مني بطريقةٍ ما. كأنها تشبهني، أو كأنها أنا في مكان آخر.
ارتعش قلب بثينة.
أمسكت يد نرجس ثم قالت بحنان يخفي خوفاً داخلياً:
ــ يا ابنتي، ليس للإنسان إلا حياة واحدة، وروح واحدة. لا تكثري التفكير، فهذا طريقٌ لا يعود بالخير.
سحبت نرجس يدها برفق، ثم قالت بصوت ناضج أكثر من عمرها:
ــ لكنني لا أستطيع تجاهل هذا الشعور. كأن شيئاً في داخلي يقول لي إن الحقيقة قريبة، وإن عليّ أن أبحث عنها.
حاولت بثينة الابتسام، لكن نظرتها كانت قلقة:
ــ ابحثي عن نفسك فقط، ولا تبحثي عن ما قد يؤلمك يا نرجس.
سكتت نرجس طويلاً، ثم قالت بصوت حاسم:
ــ أمي، أعدك أني لن أؤذي نفسي. لكني لن أتجاهل قلبي أيضاً.
اقتربت بثينة وضمّتها بقوة، كأنها تخشى أن تفلت من بين يديها.
وفي عينيها مرّ ذلك الخوف القديم.
الخوف من يوم تعرف فيه نرجس الحقيقة التي حاولا هي وزوجها إخفاءها لسنوات.
![]() |
| وسام قلق على نرجس |
رواية أقدار رواية درامية - ارتجافةٌ لا أعرف مصدرها
كانت بثينة ما تزال تحتضن نرجس حين سُمِع طرقٌ خفيف على باب الغرفة. فتحت بثينة الباب فرأت وسام يقف هناك، يحمل بيده دفتر حسابات المزرعة وقلماً، وعيناه تعكسان شيئاً من القلق.
قال بصوت خافت:
ــ خالتي، هل أزعجكما؟ سمعت صوتكما من الخارج وظننت أن نرجس ليست بخير.
ابتسمت بثينة بتوتر وقالت:
ــ لا شيء يا وسام، مجرد حديث بعد التخرج.
اقترب وسام بضع خطوات حتى وقف أمام نرجس،
ورأى الشهادة الموضوعة على الطاولة، فابتسم قائلاً:
ــ مبروك التخرج، تعب السنوات كلّه صار وراءك الآن.
رفعت نرجس رأسها إليه لكنها لم تبتسم كعادتها.
قالت بصوت منخفض:
ــ شكراً يا وسام، لكن الحقيقة أني لا أشعر أن شيئاً انتهى. أشعر أن شيئاً، بدأ للتو.
نظر إليها وسام نظرة متفحّصة، كأنه يحاول قراءة ما تخفيه.
ــ يبدو عليكِ التعب يا نرجس. وجهك شاحب.
قاطعتها بثينة سريعاً:
ــ نعم، إنها متعبة فقط. كل هذا من الإرهاق.
لكن نرجس قالت فجأة:
ــ وسام، هل سبق أن شعرت أن هناك شيئاً ينقصك؟ كأنك تبحث عن شيء، أو عن شخص، لا تعرفه؟
اتّسعت عينا وسام قليلاً.
منذ سنوات وهو يرى ذلك القلق الغريب يمرّ في عيني نرجس بين الحين والآخر.
جلس على الكرسي المقابل، ثم قال:
ــ نعم، يحدث أن يشعر الإنسان بهذا. خصوصاً عندما يكبر ويبدأ يتساءل عن مكانه الحقيقي في الحياة.
هزّت نرجس رأسها:
ــ لا، الأمر أعمق من ذلك. اليوم، على المنصّة، شعرت أنّ أحداً يقف خلفي.
ثم نظرت إليه مباشرة:
ــ أحسستُ أن روحي تتفاعل مع روح أخرى.
ارتبك وسام للحظة، لكنّه حاول إخفاء قلقه.
ــ نرجس، هذه المشاعر ليست مزحة. هل رأيت شيئاً؟ هل حدث لكِ أمر غير طبيعي؟
قاطعته بثينة بنبرة حاسمة تخفي ارتجاف قلبها:
ــ إنها تهيّؤات يا وسام. كل شابة تمرّ بهذه المرحلة من الأسئلة.
لكنّ وسام لم يقتنع، فقال بهدوء:
ــ خالتي، مع احترامي، نرجس لم تكن يوماً من النوع الذي يتخيّل أو يبالغ. إذا كانت تشعر بشيء، فلا بدّ أن وراءه سبباً.
نظرت إليه بثينة نظرة تحذير مبطّنة، لكنّه تابع موجّهاً كلامه إلى نرجس:
ــ اسمعيني يا نرجس ...
توقّف قليلاً، ثم أكمل:
ــ مهما كان ما تشعرين به، فإني أقف إلى جانبك. إن أردتِ البحث، سنبحث. وإن أردتِ أن تنسي، سننسى. المهم أن لا تبقي وحدك مع هذا الشعور.
تأثرت نرجس بكلماته، وبدت عيناها رطبتين للمرة الأولى تلك الليلة.
قالت بصوت خافت:
ــ شكراً يا وسام، لا أعرف لماذا، لكن وجودك يجعلني أتنفّس بسهولة.
تصنعت بثينة ابتسامة، لكنها شعرت بأن كلمات وسام تشقّ طريقها نحو الحقيقة التي تخشاها.
وبين الثلاثة، ساد صمت خفيف، صمتٌ لم يكن خالياً، بل ممتلئاً بما لم يُقل:
بالقرب، بالحيرة، وبخيوط القدر التي بدأت تشتدّ حولهم دون أن يشعروا.
رواية أقدار - مرآة القدر
دُعي مجموعة من الفنانين اللبنانيين الشباب إلى إقامة معرض فنّي سنوي لدعم المواهب الجديدة ومساندتها في تأسيس مسيرتها المهنية بخطى ثابتة.
وانغمست فرح في رسم لوحتين للمشاركة في هذا الحدث المهم، وقد بدا شغفها واضحاً في كل ضربة ريشة.
أنهت اللوحة الأولى، وأرادت البدء بالثانية، فاستأذنت والدها للذهاب إلى الريف كي تلتقط جمال الطبيعة هناك.
وافق والدها، ورافقها طارق ليرسم هو ايضاً لوحته وسط الطبيعة في سيارة والده القديمة، إذ كانت فرح تريد رسم لوحة تعكس الغروب وسط الجداول والحقول.
لكنّ سيارة والد طارق القديمة توقّفت فجأة، نفد الوقود.
ولم يكن هناك مكان قريب وسط الطريق الريفي الهادئ لملء الخزان بالوقود، قال طارق وهو يضرب المقود بضيق:
- كنتُ أظنّ أنّ الوقود سيكفينا، لكنّني أخطأتُ تقدير المسافة. ما كان ينبغي أن آخذ سيارة والدي!
- ربما معك حق، لكنّنا لم نكن نعرف وجهتنا لنطلب من سائق الأجرة أن يوصلنا إليها. كان عليك أن تتفحّص السيارة قبل خروجنا من المنزل.
قال طارق وقد بدا عليه الانزعاج:
نعم… كنتُ مخطئاً! يا للورطة.
فأخبرته فرح بأن يستوقف إحدى السيارات وطلب بعض الوقود منهم.
قال طارق : ومن سيقبل أن يعطينا الوقود، الوقود غالي جدا ما كان عليَ أن أخذ سيارة أبي ! معكِ حق، ربما كان الأفضل لنا لو كنا استأجرنا سيارة أجرة.
خرجَ طارق من السيارة على أمل أن يجد شخصاً لمساعدته بينما بقيت فرح في السيارة تتحدث مع والدها الذي اتصل لمعرفة إلى أين وصلا في رحلتهما هذه.
فجأة وقفت بقربهما سيارة جيب يقودها وسام ومد رأسه من نافذة السيارة، صوب نظره نحو طارق وقال :
- هل أنت بحاجة إلى المساعدة يا أخي ؟
توقف طارق مندهشاً من السرعة التي حصل فيها على المساعدة بدون حتى أن يطلبه
كرر وسام قوله:
- السلام عليكم… أتراني محقّاً؟ هل أنت بحاجة إلى مساعدة؟
انشرح وجه طارق وقال بلهفة:
- نعم! لقد نفد الوقود من سيارتنا.
ابتسم وسام ابتسامة بسيطة:
-الأمر يسير. معي بعض الوقود الاحتياطي. سأملأ الخزان لكما. لكن إلى أين تذهبان في هذا الطريق الريفي؟
- نبحث عن جدول ماء لنرسم منه لوحة. نشارك في معرض فني قريب.
- أهذا صحيح؟ رائع! في هذه المنطقة منبع نهر جميل، سيكون مناسباً جدّاً للرسم. سأدلكم عليه.
أرتاح طارق لحديث وسام والمبادرة بمساعدته ورد خجِلًا:
- أرجوك… دعني أدفع ثمن الوقود.
- مستحيل! لا آخذ مالًا على شيء كهذا.
ثم عاود وسام الحديث بفضول:
إذن أنتما تشاركان في معرض فني؟ هل لي أن أحضر؟
- بالطبع! يشرفنا حضورك. اعتبرها دعوة رسمية.
- وهل أستطيع اصطحاب ابنة عمّي معي؟ هي تحبّ الفن كثيراً. ستكون مفاجأة لطيفة لها لو دعوتها لرؤية المعرض.
قال طارق شاكراً - لقد ساعدتنا كثيرا كنت في ورطة حقيقية نفد مني الوقود في مكان لا أعرفه. على الرحب والسعة. أحضر من تشاء، سنكون في غاية السرور لتشريفكم معرضنا.
- بالمناسبة اسمي طارق كمال وهذه زميلتي وجارتي في نفس الوقت، فرح ، سأعطيك رقم هاتفي ، للتواصل بخصوص العنوان وموعد الافتتاح.
- من دواعي سرورنا أن نحضر أنا و أبنة عمي.
لم يلاحظ وسام فرح لأنها كانت جالسة في السيارة منشغلة في الحديث مع والدها على الهاتف، ولم تخرج منها وقد غطى شعرها المنسدل معظم وجهها ولم ينظر اليها أبدا فكان جلُ حديثه مع طارق.
اقرأ ايضا قصة حين يزهر الصمت قصص قصيرة
رواية أقدار - القدر يدخل من باب المعرض
وأخيرا أقيم المعرض وشارك فيه جميع الطلبة المتخرجين حديثا لتعريف الناس بالفن الذي يقدمه هؤلاء الطلبة لكن موهبة فرح الاستثنائية لفتت انتباه الكثيرين.
تجمع الجميع حولها لتهنئتها واشادوا برسمها.
بينما هي مشغولة بشكر زملائها المهنئين حتى دخل وسام ونرجس إلى المعرض وما أن التقت عينا نرجس وفرح حتى ساد صمت واندهاش كبير من جميع الحاضرين للشبه الغير طبيعي بينهما.
رواية أقدار - ارتباك الأرواح قبل الأجساد
لم تكن نرجس تتوقع شيئاً حين خطت مع وسام إلى قاعة المعرض. كانت الأضواء الساطعة تنكسر على الزجاج وتنعكس على لوحاتٍ ملونة، بينما كانت الأصوات تتداخل كأنها ضجيج داخلي لا ينتمي إلى العالم الخارجي بقدر ما ينتمي إلى تلك الفوضى التي تعيش داخل كل إنسان.
وسام تقدّم بخطواتٍ ثابتة، كعادته، أما نرجس فكانت تشعر أن الأرض تتحرّك تحت قدميها بلا سبب واضح، وكأنها تسير نحو شيء لا تريد مصادفته ولا تستطيع الهروب منه.
وما إن اجتازت الباب العريض حتى بدا لها أنّ القاعة تضيق فجأة، تضيق كأن الهواء يتجمّع في نقطة واحدة.
وفي تلك النقطة تحديداً، كانت فرح واقفة.
![]() |
| فرح ونرجس وجها لوجه |
ولوهلةٍ، شعرت نرجس بأن الزمن توقّف، ثم عاد يتحرك ببطء مُفزع، ببطء يجعل كل نبضة في صدرها صرخة ناعمة لا يسمعها أحد.
كانت فرح واقفة أمام لوحتها، ومن حولها الناس، لكنّ نرجس لم تر أحداً.
رأت وجهاً يشبه وجهها؛ نفس انحناءة الحاجب، نفس الارتجافة الخفيفة في نظرة العين، وتلك المسافة الغامضة بين الحزن والدهشة التي كانت تسكن ملامحها.
لم تكن فرح أقلّ اضطراباً منها.
كأنّ روحًا كانت نائمة منذ سنوات واستيقظت فيهما معاً في اللحظة ذاتها.
وسام، الذي وقف بينهما كغريب في مسرح القدر، قال شيئاً، شيئاً عادياً مثل:
"يا إلهي، إن الشبه بينكما مخيف."
لكن صوته بدا لنرجس بعيداً جداً، كأنه يأتي من نهاية ممرّ طويل، ممرّ يفضي إلى بابٍ لم يُفتح بعد.
أحسّت نرجس بشيء يشبه الانهيار الهادئ داخلها ذلك النوع من الانهيار الذي لا يراه أحد، لكنه يهزّ أعمق طبقات الروح.
ولسببٍ لم تفهمه، شعرت برغبة حادة في البكاء، ورغبة أشدّ في الهرب.
لكن قدميها بقيتا مغروستين في الأرض كأنهما تعرفان الحقيقة قبل عقلها.
فرح بدورها كانت تحدّق فيها بعينين متسعتين، وكأنها أمام مرآة تكشف ما كانت تجهله عن نفسها.
ولأول مرة منذ سنوات طويلة، شعرت نرجس أنّ أحلامها تلك التي كانت تحاول تجاهلها لم تكن مجرد ظلال في نومٍ مضطرب، بل كانت شيئاً حيّاً، شيئًا له وجه، وهذا الوجه يقف أمامها الآن.
في تلك اللحظة، لم يعد المعرض مجرد قاعة فنية.
صار ممرّاً ضيقاً بين ماضيين، ومستقبل واحد لم يكن قد كُتب بعد.
كانت فرح واقفة أمام لوحتها، تحاول أن تبدو هادئة وسط ضجيج القاعة.
الناس يقتربون ويبتسمون، كلمات المديح تتوالى، لكنها كانت تشعر بغرابة لم تجد لها تفسيراً.
ذلك القلق القديم الذي يسكنها منذ طفولتها عاد يتململ في أعماقها، وكأن شيئاً مجهولاً يقف على عتبة حياتها وينتظر اللحظة المناسبة ليدخل.
رفعت رأسها للحظة. لا شيء غير معتاد.
ضوء أصفر ينسكب على الوجوه، أصوات متقاطعة، خطوات سريعة، ومع ذلك، كان هناك إحساس قاسٍ ومفاجئ يضغط على صدرها، إحساس كأن أحدهم يتقدّم نحوها، شخص تعرفه دون أن تعرف هويته.
ثم رأت وسام يدخل. لم تكترث كثيراً حسبته مجرد زائر.
لكنّه تحرّك قليلًا إلى جانب الفتاة التي كانت ترافقه، وحين ظهرت تلك الفتاة كاملة في خطّ رؤيتها، شعرت فرح بأن الهواء انقطع فجأة.
وجه، وجه يشبه وجهها، بشكل لا يمكن للعقل أن يقبله.
تسارعت أنفاسها. مرّ صوت داخلي كالصاعقة عبر جسدها، صوت لم يكن صوت عقلها بل شيء أعمق، شيء يشبه الذاكرة، ذاكرة بعيدة تخصّها. كانت تحدّق دون أن تطرف.
كأن الزمن قد جُمد حولها، وكأن الضوء وحده يتحرك على ملامح الفتاة المقابلة، فيمسحها ببطء، كأنه يكشف حقيقة كانت مختبئة في الظلال منذ سنين طويلة.
وفي اللحظة التي التقت فيها أعينهما، شعرت فرح أنّ شيئاً ما بداخلها انكسر، لكنّه لم يكن انكساراً مؤلماً بقدر ما كان انكشافاً. انكشافٌ لم تكن مستعدة له، ولم تكن تطلبه، ولم تكن تتوقعه. كان يشبه العثور على جزءٍ مفقود من الذات، جزءٍ لم تكن تعرف أنه مفقود أصلاً.
قال أحدهم جملة عن الشبه، لم تسمعها بوضوح.
كان كل شيء حولها يتحرك ببطء مبالغ فيه، كما يحدث حين يكون العقل غارقاً في صدمة عميقة.
لم تعد تسمع الضحكات، ولا التصفيق، ولا وقع الأقدام.
كل ما بقي هو وجه نرجس، وارتجافة خفيفة في قلبها كانت تتسع كلما طال التحديق.
سألت نفسها بصوتٍ خافت داخلها:
«هل هذه هي…؟
هل هي من كنت أبحث عنها دون أن أعرف؟
هل هذه هي الروح التي كنتُ أحسّ بها؟»
ولوهلةٍ، شعرت فرح أنّها لو خطت خطوة واحدة نحو نرجس، فإن شيئاً كبيراً سيتغيّر، شيء أكبر من المعرض، أكبر من الرسم، أكبر من حياتها بأكملها.
ولم تفهم لماذا، لكنّها شعرت أنّ مستقبلها، وربما ماضيها، يقف الآن أمامها بوجهٍ يشبه وجهها.
![]() |
| فرح ونرجس |
وقف الجميع بصمت لأكثر من خمس دقائق حتى كسر وسام هذا الصمت بقوله :
- يا ألهي أنكما تتشابهان بشكل غير معقول. قالها وسام متفاجئاً حين رأى الشبه:
يا إلهي… إنّ الشبه بينكما يكاد يكون خيالًا!
ثم أعقبه طارق بالقول :
- لم أر في حياتي أمراً كهذا! يقولون إنّ هناك أربعين شبيهاً للمرء، لكن ليس بهذا التطابق! فعلا
أمر غريب!
وبدأ جميع من في القاعة بالتهامس والتساؤل:
- هل أنتما توأمان؟
وقال آخر:
لا بدّ أنّ بينكما قرابة!
بقيت نرجس وفرح صامتتين بإندهاش. كان الموقف أكبر من أي كلام يمكن أن يقال.
أشرف وجمانة كانا يتفرجان من بعيد وهم مستغربين جدا مما حدث. قالت جمانة وهي تنظر إلى أشرف :
- إن الحقيقة التي كانت مكتومة لاثنين وعشرين سنة سوف يُفضح أمرها اليوم. أنا خائفة يا أشرف! بدا التوتر واضحا عليها.
- وأنا كذلك يا جمانة لكني سأقول الحقيقة كاملة لفرح. على كل حال كنتُ على يقين إن هذا اليوم قادم لا محالة. انها حكمة الله سبحانه وتعالى، قالها بقلق وارتباك.
كسر وسام هذا الصمت و قال: هل سنبقى هكذا طويلا ؟
قالت فرح بسرعة: اهلا بكم في معرضنا يا..؟
-اسمي نرجس ، و أنت ما أسمك ؟
-أنا فرح، تعالي لأُريك لوحتي.
كانتا في حالة ذهول لكن لم يكن بوسعهم البوح بهذا الشعور أمام كل الحاضرين.
ثم نظرت نرجس إلى اللوحة المعروضة وقالت بانبهار: هل حقا أنتِ من رسم هذا الجمال ؟
- نعم ، هل أعجبكِ؟
كان الفضول يسيطر على نرجس فأجابت على الفور:
- بكل تأكيد! هل تعتبر وقاحة مني إذا طلبتُ منكِ رقم هاتفكِ؟
نفس الفضول كان موجوداً في تفكير فرح فقالت بسعادة
- كأنكِ في عقلي! كنتُ أريد أن أطلب منكِ نفس الطلب.
تبادلتا أرقامهم ونشأت بينهما رابطة سريعة وحميمة .
وبينما تبادلتا الأرقام، شعرت فرح في داخلها همساً خفيفاً:
"هذه الفتاة… كأن القدر كان يلوّح لها بها طيلة تلك السنوات."
ونرجس فكرت، وهي تنظر إليها بذهول داخلي:
"هذا هو الوجه الذي كان يزورني مراراً في منامي… لم أكن أتخيّله هكذا حيًاً."
- هذا هو الوجه الذي كان يزورني في أحلامي… بل الملامح نفسها!
يتبع….




